يستخدم الباحثون العرب في مجال الدراسات الإسرائيلية، وكثير غيرهم، مصطلحي اليمين واليسار للدلالة على مواقف أحزاب وقوى سياسية واجتماعية إزاء قضية فلسطين، وما يتعلق بها. ومازال هذا الاستخدام شائعاً منذ أن بدأ الاهتمام في العالم العربي بدراسة إسرائيل، عقب حرب 1967.
وكان هذا التصنيف منسجماً، أيضاً، مع المعيار السائد في العالم بشأن التمييز بين اليمين واليسار، وهو الموقف تجاه القضايا الاقتصادية والاجتماعية. فاليمين يميل، عادة، إلى تحرير الاقتصاد وإطلاق قوى السوق وخفض الضرائب، بينما يتجه اليسار في الأغلب الأعم إلى دور أكبر للدولة وتوسيع الرعاية الاجتماعية. ورغم أن هذا المعيار الاقتصادي الاجتماعي لم يعد يعمل في إسرائيل منذ تسعينيات القرن الماضي، فقد ظل تصنيف الأحزاب إلى يمين ويسار مستمراً، ومستنداً على الموقف تجاه قضية فلسطين. كما بقي التصنيف إلى يمين ويسار على حاله بعد أن ضاق الخلاف بشأن هذه القضية، وفقدت الأحزاب المصنفة يساريةً حضورها السابق، وصارت أقرب ما تكون إلى هامش صغير في الخريطة السياسية. فقد استمر التصنيف القديم مهيمناً في نظرة العرب إلى التفاعلات السياسية في إسرائيل، بل انتشر في وسائل الإعلام، من دون مراجعة جدواه، كما يتضح في التعامل مع نتيجة انتخابات الكنيست الأخيرة التي أُجريت في 9 أبريل الماضي.
فالاتجاه الغالب فيما يُنشر ويُبث عن هذه الانتخابات أن اليسار يعاني أزمة كبيرة، وأن اليمين يواصل تصدره المشهد رغم التحقيقات الجارية مع زعيمه الحالي بنيامين نتنياهو في قضايا فساد كان مثلها، وأقل منها، كافياً للقضاء على مستقبل أي سياسي في إسرائيل.
ولذا، صار ضرورياً التساؤل ليس عن مدى صحة التقييم الشائع الذي يذهب إلى أن اليسار يواجه أزمة فقط، ولكن عن مدى سلامة المنهج الذي استُخدم في ظله مصطلحا اليمين واليسار كأساس لفهم الخريطة السياسية في إسرائيل.
وعندما نتأمل نتيجة الانتخابات الأخيرة، ونضعها في سياقها التاريخي، يبدو أن ثمة خصوصية لمفهومي اليمين واليسار، وأن استخدامهما ينبغي أن يراعي هذه الخصوصية المرتبطة بفرادة التجربة الإسرائيلية التي يتعذر أن نجد ما يماثلها في عالمنا.
فقد أدت الأحزاب التي وُصفت بأنها يسارية وظيفة تاريخية فرضتها الظروف التي تمكنت فيها الحركة الصهيونية من تأسيس إسرائيل.
لم يكن بإمكان من يُشبهون نتنياهو حينئذ أداء تلك الوظيفة لأسباب تتعلق بالمتطلبات اللازمة لبناء دولة من نقطة الصفر وسط محيط رفضها، وطبيعة الصورة التي كان على مؤسسيها أن يقدموها للمجتمع الدولي. وهذا فضلاً عن المتطلبات الداخلية الضرورية في حينه. فقد تطلب تأسيس إسرائيل منهجاً معيناً اعتمد على تنظيم اليهود المهاجرين في كيانات تُشبه في شكلها مؤسسات ارتبطت باليسار في العالم، مثل اتحاد العمال «الهستدروت»، والمزارع الجماعية، وقيماً يسارية مثل الجماعية، والتقشف، لتوظيفها في عملية التأسيس.
وكانت الأحزاب المصنفة يساريةً، منذ «حزب عمال أرض إسرائيل» (ماباي) بقيادة بن جوريون، هي الأقدر على أداء تلك الوظيفة التاريخية. وتصدرت هذه الأحزاب، التي اندمجت في «حزب العمل» عام 1968، النظام السياسي الإسرائيلي لما يقرب من ثلاثين عاماً، حتى بدأت أحزاب أخرى تصعد بدءاً من عام 1977 لأداء وظيفة تاريخية ثانية تكمل تلك التي قام بها اليسار.
فقد تمكن هذا اليسار من تأسيس إسرائيل على أكثر من 70% من أرض فلسطين، ثم احتلال الجزء الباقي في حرب 1967. وكان على تيار آخر أن يكمل ذلك الإنجاز عبر توسيع الاستيطان. وعندما فرضت الظروف التفاوض مع الفلسطينيين، عاد اليسار لإنجاز هذه المهمة عبر اتفاق أوسلو 1993، ثم أخذ دوره في التلاشي تدريجياً بعد ذلك.
ولا يعني هذا أن توزيعاً منتظماً للأدوار اتُفق عليه في إسرائيل. فما حدث كان تطوراً طبيعياً تكاملت فيه المهام وفق متطلبات هذا التطور وفي إطار خصوصية مفهومي اليمين واليسار في إسرائيل.
ولذا، ربما تكون الدلالة الأكثر أهمية لنتيجة الانتخابات الأخيرة هي انتهاء دور اليسار بعد انتهاء مرحلته التاريخية، وتحوله إلى هامش يقل تمثيله عن 10% من مقاعد الكنيست (6 لحزب العمل، و4 لحزب ميريتز). وهذا وضع يتجاوز كثيراً معنى الأزمة، ولا يمكن فهمه من دون إدراك خصوصية كل من اليمين واليسار في إسرائيل، وبهذا المعنى، لم يعد دقيقاً القول إن اليسار في أزمة لأنه فقد مبرر وجوده بعد أن أدى دوره التاريخي كاملاً.
*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية